Saturday 16 June 2012

علينا جميعاً النضال من أجل الشفافية والوصول الى المعلومات

معرفة الحقيقة مسألة مهمة, مهما كانت الحقيقة موجعة, وأيا كان مصدرها أو الغرض منها أو توقيت نشرها, المهم معرفة الحقيقة , ولو جأت متأخرة, كي تحصننا وتقوينا وتقلل خسائر حصادنا لاحقاً, الكثير منا اليوم في حالة من الصمت و الذهول والإرباك, والكثيرين مصدومين وغير مصدقين, وهناك العارفون المكابرون, وأيضاً هناك المتشفون الفارحون, وهناك من يشعر بالغدر والخديعة والخيانة وبالتالي بالغضب والغليان, لا لإستحالة أو عدم صحة قائمة القوامة السعودية على اليمن, إنما لأن تلك السلسلة الطويلة من الأسماء, ما هي الا رأس الجليد, رغم أن تلك القائمة التي نشرتها صحيفة الشارع اليوم غير نهائية حتى الآن, ولا زال هناك في حدود أكثر من 2600 معال من الشقيقة, إنما يبقى الحق في الوصول الى المعلومة حق أصيل كي تكون القرارات والمواقف اللاحقة واعية ومدروسة. لذلك علينا جميعاً النضال من أجل الشفافية والوصول الى المعلومات, والوسيلة الوحيدة هي وجود إعلام حر مهني ومستقل وجاد يتمتع بالروح الوطنية الغيورة على مصالح الوطن مع مؤسسات مدني مستقلة ونزيهة, الأمر الأخر هو العمل الجاد على ضمان وجود مؤسسات وطنية للمسائلة والمحاسبة, متمثل ببرلمان وقضاء كفؤ نزيه مستقل ووطني.

Wednesday 6 June 2012

تقرير لجنة تقييم الأوضاع في دماج ـ محافظة صعدة

تقرير لجنة تقييم الأوضاع في دماج ـ محافظة صعدة بتاريخ العاشر من ديسمبر ٢٠١١ 

 ********

 مقدمة
 استجابة للأحداث في محافظة صعدة وما يشهده النزاع بين الحوثيين و السلفيين في منطقة دماج وعلى اثر ما ينشر ويبث في الاعلام واللغط الحاصل في احداث دماج ـ صعده وانطلاقا من مسئولياتنا المهنية والوطنية والانسانية، بادرت منظمات المجتمع المدني وشخصيات عامة واعلامية للإستجابة إلى دعوة تكوين لجنة تقييم للاوضاع في دماج، محافظة صعده، والنزول الميداني، وتقييم الوضع هناك. عملت اللجنة وفق منهجية المقابلات والزيارات الميدانية والملاحظة، مع طرفي النزاع والسلطة المحلية، وأعدت تقريرها عن الوضع في دماج عقب ذلك.


البرنامج الزمني ومنهجية العمل

4/12/2011   مدة الزيارة : من 1 / 12/ 2011 الى*

:منهجية العمل*

 مقابلة القيادات من الطرفين-
 مقابلة المحافظ ولجنة الوساطة-
 مقابلة الاطباء والصحفيين في مستشفى الطلح وفي مركز دماج ومستشفى السلام بصعدة-
 مقابلة مسئول المنظمات عن المجلس التنفيذي للسلطة المحلية بصعدة-
 الاطلاع على وثيقة الصلح-
 الاطلاع على قرص مدمج موثق لجرحى من السلفيين-
 زيارة ميدانية للجرحى من الحوثيين والسلفيين-
 التعرف على نقاط التماس الجغرافية ومواقع التمركز للمسلحين من الطرفين- 
المتابعة لوسائل الإعلام والتغطيات الإعلامية عن النزاع-


 موضوع الزيارة : الإطلاع على الوضع العام في دماج وتقييمه

 1- التركيبة الديموغرافية للسكان في صعدة صعدة:

 محافظة في شمال الشمال ينتمى معظم سكانها الى المذهب الزيدي الشيعي وقد خاضوا صراعات مسلحة معا السلطة سقط نتيجته آلاف القتلى بين عامي 2004 و2010. توقف القتال بين السلطة ومسلحي الحوثي نتيجة لاتفاق وساطة احدى الدول الخليجية (قطر) ويسيطر على الحالة الامنية في صعده منذ 2010م. الحوثيون إذ يديرون إلى جانب قوات من الجيش الحكومي في مواقع متعددة نقاط تفتيش ومداخل مناطق ومواقع متفرقة على امتداد صعده ويعمل الحوثيون وفق اتفاق تنسيق مع السلطة المحلية المنتخبة من المواطنين ممثلة بمحافظ المحافظة والمكتب التنفيذي للسلطة المحلية للحفاظ على الامن واستمرار التهدئة بين الحوثيين والحكومة وفقا للاتفاق الاخير معهم المشار اليه بواسطة دولة قطر . والى جانب ذلك تعيش جماعات من ابناء صعده في منطقة دماج يتبعون المذهب السني، ويوجد في دماج مركز تعليمي للعلوم الشرعية وفقا للمنهج السلفي، والمنتظم للدراسة فيه عدد من ابناء المنطقة وطلاب يمنيين من مختلف محافظات الجمهورية علاوة على دارسين من جنسيات مختلفة ( بحدود 120 جنسية حسب إفادة أحد السلفيين). 

:النزاع ووقائعه

 شكلت واقعة اعتداء السلفيين، على "فتى" عمره ما بين 14 الى 18 عاما (العمر حسب محافظ صعدة)، ينتمي للحوثيين، السبب المباشر الذي اندلعت على اثره المواجهات المسلحة بين الطرفين ( مع عدم إغفال الخلفية السياسية والمذهبية المتوترة بين طرفي النزاع خلال الفترة السابقة، وتحديدا مع الحرب الخامسة بين الحوثيين والقوات الحكومية،والتي أشار لها الطرفان). 

بعد واقعة الإعتداء شعر السلفيون بخطورة الحادثة، وقاموا بتحكيم المحافظ، والذي قال أن المحافظة والسلطة المحلية كانوا مقصرين في التجاوب مع الحادثة بشكل سريع، في ظل مطالب مقابلة من الحوثيين أيضا للتحرك. أعقبة تمترس من الطرفين في كل من جبل البراقة المطل على منطقة دماج ومعهد دار الحديث،ولحقه اندلاع المواجهات المسلحة بين طرفي النزاع، والذي ظهر فيه الحوثيون مهاجمون والسلفيون، مدافعون عن موقع جبل البراقة، حيث كان جبل البراقة موقعا خاليا من أي إستحداثات مسلحة سابقا.

تأثيرات النزاع:

 1- إنتشار مسلح من طرفي النزاع حيث سيطر السلفيون على معظم جبل البراقة، والذي أصبحت مركز رئيسي للمواجهات المسلحة،وفيما تواجد الحوثيون على طرفه بالإضافة إلى نقطة الخانق( التي بجوارها مدرسة يمترس فيها الحوثيون)، وهو المدخل الرئيسي لمنطقة دماج. مع سيطرة للحوثيين على غالبية المناطق والجبال المحيطة بدماج ( يشير لها السلفيين بـ الصمعات، العقر، قاهر الذيب، الأحراش، المشرحة). ويشير الحوثيون إلى وجود سيطرة سلفيين في ( النقوع– القصبة- جبل البراقة، جبل المدور، قرية في جنوب البراقة، مدرسة الشهيد علي ناجي، والتي لاحظت اللجنة في هذه المدرسة تمترس مسلحين سلفيين داخلها).

 2-  لاحظت اللجنة آثار النزاع المسلح بين الطرفين من خلال المشاهد التالية:

 أولا: منطقة دماج

 - وجود حالة إنسانية في قرية ومركز دار الحديث في دماج، تمثلت في نقص المواد الغذائية الأساسية، نتيجة حصار مفروض على المنطقة، تمثل في خلو المتاجر التي شاهدتها اللجنة من المواد الغذائية التي مكنا من زيارتها، علاوة على نقص بالأدوية، وأشار من ألتقت بهم اللجنة إلى نقص في إمدادات المحروقات ايضا.

 - شاهدت اللجنة في جامع معهد دماج جرحى من السلفيين عددهم 27 جريح، متفاوتي الإصابة، بعضهم أفاد بإصابته أثناء المشاركة في الإشتباكات في جبل البراقة، والبعض الآخر أفاد بإصابته في القرية ( بينهم جرحى من جنسيات أجنبية)، وقد لاحظت اللجنة أن المركز الصحي مغلق (لا توجد مفاتيح لمشاهدته من الداخل)، ويتم علاج الجرحى في جامع دار الحديث.

 كما أفاد السلفيون عن 32 قتيلا بينهم امرأة واحدة ( شاهدت اللجنة مقبرة لعدد 19 قبرا، قال السلفيون أن بعضها يضم جثامين لقتيلين). - شاهدت اللجنة مسلحين سلفيين أثناء تجوال اللجنة في دماج. - شاهدت اللجنة متاريس وخنادق دفاعية يشير السلفيون إلى إستخدامها في الدفاع والتنقل داخل القرية. - شاهدت اللجة آثار مختلفة لقذائف لم تتمكن اللجنة من تحديدها، من بينها لقذائف على كل من : أحد أركان المركز الصحي العلوي في دماج، وسكن الطلاب، وأحد المنازل. 

كما شاهدت اللجنة آثار متفرقة لطلقات نارية مختلفة الأعيرة في كل من: الجامع، السوق، جدران بعض المنازل. - أفاد أحد من قابلتهم اللجنة في دماج إلى وجود 3 جثث لقتلى حوثيين، منذ ايام، في طرف جبل البراقة وبالقرب من موقع الحوثيين لم يتمكن الحوثيون من إنتشالها ( طلب أحد السلفيين من اللجنة إبلاغ الحوثيين والمساعدة في إنتشالها). - أثناء مغادرة اللجنة دماج طلب أحد الطلاب السلفيين الخروج مع اللجنة للعودة إلى منطقته، وافقت اللجنة على إصطحابه، وعند نقطة الخانق التي يسيطر عليها الحوثيون، طلب منه إبراز بطاقته الشخصية، وسُجل إسمه في النقطة.

 - شاهدت اللجنة أطفالا تحت سن 18 سنة يحملون الأسلحة الخفيفة ( كلاشينكوف، في مركز دماج- دار الحديث). - أثناء تواجدنا في دماج سمعنا أصوات إطلاق نار لم نتمكن من تحديد مصدره، وشاهدنا آثار دخانية في السماء. - أثناء مغادرتنا دماج سمعنا جزء من خطبة الجمعة وكان يدعو الخطيب فيها إلى جهاد الروافض، وكانت اللجنة قد سمعت أصوات لأناشيد حماسية قال السلفيون أنها للحوثيين وثبث من جبل البراقة. في إشتباكات دماج، عرضت بعض صور منهم على أعضاء اللجنة.

 - أثناء مغادرة اللجنة دماج، قابلتنا قافلة مساعدات غذائية، تتكون من 3 شاحنات كبيرة ( بابور سكس)، و3 شاحنات متوسطة ( دينات)، محملة بمواد غذائية ودوائية متنوعة، مساعدة من الصليب الأحمر الدولي، وعدد من سيارات الإسعاف. وعادت اللجنة لمرافقتها وتمكنت من متابعة إدخال المساعدة إلى دماج، مع تأكيد اللجنة إحتياج دماج لإمدادها بالأغذية بشكل متواصل.


 ثانيا: الحوثيين

 - لاحظت اللجنة سيطرة الحوثيين على معظم المناطق التي زارتها اللجنة في صعدة أمنيا، مع تواجد ملحوظ للأمن المركزي والجيش، يؤمنون منشآت ومناطق مختلفة، بالتنسيق مع الحوثيين. - قامت اللجنة بزيارة مستشفى الطلح الريفي حيث شاهدت عدد 29 جريحا(افاد مدير المستشفى بمغادرة 5 آخرين) مصابين بإصابات متفاوته، نتيجة لإشتباكات دماج. كما أفاد الحوثيون بسقوط 11 منهم - ألتقت اللجنة في 1 ديسمبر، بعضو المكتب السياسي لحركة الحوثيين (ابو مالك الفيشي)، وأطلعته على الوضع الإنساني في دماج، وطلبت اللجنة العمل على فك الحصار فورا عن دماج، والسماح بخروج الجرحى وإسعافهم. وقد تم إخلاء 8 جرحى في نفس اليوم، الساعة 8 ليلا، من قبل الصليب الأحمر، بسيارة إسعاف تابعة لوزارة الصحة، ووعد بتدارس أمر فك الحصار، وقد طرح "أبو مالك" مجموعة من الملاحظات المقابلة لما طرحته اللجنة، تناولت : إنصاف المعتدى عليه، ووقف العدوان والتحريض والفتوى بالقتل في جميع الاتجاهات، إنهاء الوجود العسكري والعودة إلى الوضع المدني، وأن يكون السلفيين في حماية السلطة أسوة ببقية ابناء المحافظة.

 - صدر بيان المكتب السياسي للحوثيين يستجيب لطلب اللجنة بفك الحصار في 3 ديسمبر. - تم إخلاء قتلى الحوثيين الثلاثة، المشار لهم سابقا، من قبل الصليب الأحمر الدولي في 3 ديسمبر. - توجهت اللجنة في 4ديسمبر إلى منطقة كتاف ( وادي آل أبو جبارة)، مع لجنة الوساطة من شيوخ القبائل، لإدخال قافلة المساعدات التي أعلن عنها السلفيين، وأكدتها وسائل إعلام مختلفة، وقد إلتقت اللجنة بما يقارب المائة مسلح، وعند سؤالهم عن القافلة، أفادوا بأن القافلة في البقع، بالقرب من الحدود اليمنية- السعودية، وأنها تتجمع هناك، من كل إنحاء اليمن، وبالتالي عادت اللجنة إثر ذلك دون مشاهدة القافلة في منطقة وادي آل أبو جبارة- كتاف.

 التوصيف القانوني للنزاع:

 نزاع أهلي، طائفي وسياسي، بين جماعتين مسلحتين، الحق ضررا بالسكان المحليين المدنيين في منطقة دماج، وبقية أطارف الصراع، وترتب عليه انتهاكات متعددة لقواعد القانون الدولي المنظمة للنزاعات المسلحة، واتفاقية جنيف، من قبل الطرفين.


 الاستنتاجات والتوصيات : 

أولا: الإستنتاجات


 - وضع إنساني ناجم عن الصراع المسلح بين الطرفين، والحصار الذي فرضه الحوثيين، والذي لمسته اللجنة بشكل مباشر في نقطة الخانق التي يسيطر عليها الحوثيون، وانتهاكات لحقوق الإنسان يتحمل مسؤوليتها الطرفان ( مع تأكيد اللجنة على ملاحظة وجود سكان محليين يتبعون المذهب الزيدي، وآخرين سنة، مدنيين، متعايشين في نفس المنطقة المحاصرة). - مقدار هائل من التضخيم وأشكال مختلفة من التحريض الإعلامي من وسائل إعلامية محلية وخارجية، على غير حقيقة الوضع في دماج، تقود إلى مفاقمته، وتحقيق مصالح غير منظورة لجهات غير معروفة، وستقود إلى تعزيز الإنقسامات الوطنية وتمزيق النسيج الإجتماعي.

 - ملاحظة اللجنة لخطاب تحريض وكراهية وتكفير يمارسه السلفيين يؤدي إلى التوتر، ويقابله إحساس بالخوف والقلق من قبل جماعة السلفيين، نتيجة سيطرة الحوثيون في محافظة صعدة، وخشية من هيمنة تجاههم، ولاحظت اللجنة عدم تناظر في القوة المسلحة، ويميل لصالح الحوثيون، الأمر الذي يرتب عليهم مسؤوليات أعلى تجاه التبعات الإنسانية للصراع. - وجود لجنة وساطة، من شيوخ القبائل بين الطرفين، جيدة ومهمة، تعمل على حل المشكلة وتهدئتها، منذ فترة، وقبل وصول اللجنة، وقد إجتمعت اللجنة بهذه الوساطة، وتعتبرها عامل أساسي في الحل والتهدئة، ويجب الدفع بها.

 - لمست اللجنة جهودا وطنية كبيرة، من أطراف متعددة حريصة على وقف الإقتتال ونزع فتيل الإشتعال للحيلولة دون توسعه وتفاقم آثاره، . - إن أسباب الصراع المسلح الناشب في دماج، التي أوردها الطرفان، غير كافية ومبررة لخوض هذا الصراع، حيث كان بإمكانهما إتباع سبل سلمية سريعة لمعالجة نقاط الخلاف. - غياب الدولة وعدم قيامها بمسئولياتها بما يكفل حماية المواطنين وضمان حقوقهم، وإفتقار دماج- صعدة، الواضح للتنمية والخدمات الأساسية وأهمها التعليم والصحة. 

- إجمالا ترى اللجنة أن الوضع في دماج بحاجة إلى تدخل إنساني يكفل معالجة الاوضاع الانسانية التي تعيشها، قبل الحصار ومشكلتها مع الحوثيين، او بعد النزاع، بما يكفل إعادة الحياة إلى وضعها الطبيعي، وحصول المواطنين على الإحتياجات الأساسية.

 ثانيا: التوصيات توصي اللجنة بالتالي:

 - دعم جهود الوساطة وتنفيذ الصلح الذي أبرم بين طرفي النزاع في تاريخ 23/11/2011. - تنفيذ المبادرة التي أعلن عنها المكتب السياسي للحوثيين، والتي جاءت إستجابة لجهود لجنة التقييم ( المنظمات الحقوقية) في تاريخ 3 ديسمبر 2011. فورا. والعمل من قبل الحوثيين على رفع الحصار كاملا عن منطقة دماج، والسماح بحرية التنقل، من وإلى منطقة دماج، دون قيد أو شرط. 

- توصي اللجنة، السلطة المحلية بتحمل مسؤولياتها الأمنية، وإنفاذ سلطتها القانونية بما يتعلق بمنطقة دماج، وبما يضمن فك الحصار وتأمين أهاليها، ويضمن إزالة مخاوف الحوثيين. - توصي اللجنة بضرورة إجراء تحقيق شامل ومحايد بما يتعلق بإنتهاكات حقوق الإنسان في منطقة دماج، أياً كان مصدره، وخاصة حادثة مقتل المرأة المدنية في منطقة، لخطورة الحادثة وغموض ملابسات مقتلها.

 - إعادة فتح المدارس التي يمترس فيها المسلحون من الطرفين، وتأهيلها، بما يضمن إنتظام العملية التعليمية فيها، وكذلك تشغيل المركز الصحي، في دماج. - تشدد اللجنة على الوسائل الإعلامية المختلفة تحري الحقيقة والمصداقية والمهنية أثناء نقل الوقائع عن الأحداث الدائرة في دماج – صعدة، وعدم المبالغة في إستخدامها مفردات ومصطلحات لا تتناسب مع الأحداث والوقائع، على الأرض، كون ذلك يفاقم من الوضع هناك، ولا يساعد في حله.

 - تشدد اللجنة على طرفي النزاع الإستجابة إلى وقف الإقتتال واللجوء إلى الوسائل السلمية لحل أي خلافات مستقبلا. والعمل على إزالة كل ما من شأنه زيادة التوتر بينهما. وإحترام حقوق الإنسان، والتعايش السلمي. ووقف خطابات التكفير والتحريض والإنتهاكات المتبادلة. 

- تشدد اللجنة على حكومة الوفاق الوطني أن تضع النزاع في دماج، وكافة النزاعات في البلد، ضمن أولوياتها وعلى وجه السرعة تلافيا لتوسع رقعة النزاعات وأخذها بعدا أكبر.

صادر عن لجنة تقييم الأوضاع في منطقة دماج:

أعضاء لجنة التقييم

 أولا: قوام اللجنة

 1- منظمات : منتدى الشقائق العربي ( أمل الباشا، ماجد المذحجي) المنظمة اليمنية للدفاع عن حقوق الانسان ( علي الديلمي، عادل دحروج) الهيئة الوطنية للدفاع عن حقوق الانسان ( محمد مقبل الهناهي) المرصد اليمني لحقوق الانسان ( عبد القادر البناء) المؤسسة اليمنية للدراسات الاجتماعية ( بشير عثمان) مؤسسة الشرق الاوسط للتنمية ( عبدالله عبده ناجي علاو)

 2- شخصيات عامة: عبد الباري طاهر عبد الكريم الخيواني جميلة على رجاء 3- صحفيين: نبيل سبيع احمدالزرقة محمد الكهالي جميل سبيع ثانيا : لجنة صياغة التقرير: - بشيرعثمانYFSS) ) - عبدالله علاو ( الشرق الأوسط) - ماجد المذحجي (الشقائق) - محمد الهناهي (هود) *************

ماذا أهديتني يا أحمد في عيد زفافنا السابع !

ماذا أهديتني يا أحمد في عيد زفافنا السابع ! - مقال لي نُشر في صحيفة الوحدوي, 21/4/1998م 

 *************

 ها قد هل الرابع عشر من مارس الذي أطلقتَ عليه مداعباً يوم " النكسة " والذي كنتُ أصر دائماً على أن نجعل منه فرصة للفرح, بينما كنتَ دائم الهروب من الاحتفال بهذا اليوم معللاً ذلك بقولك:" وهل يحتفل الإنسان بيوم نكسته ؟ ". لقد كان هذا اليوم منذ أن تزوجنا يوماً للخناق لأنك كثيراً ما كنت تنسى موعد قدومه .اتذكر انك في إحدى المرات تذكرته وذهبتَ إلى اقرب مكتبة لشراء بطاقة معايدة , وبعد أن اخترتَ إحداها وهممتَ بدفع ثمنها لم تجد في جيبك ما يكفي لشرائها بالرغم من أن ثمنها لم يتجاوز المائة ريال كما أخبرتني . وفي العام المنصرم ذكرتُك مرارا قبل حلول هذا اليوم بأنة قادم وعليك أن تستعد له وتلغي جميع ارتباطاتك, بل وأكثر من هذا هددتك بأنني لن اقبل أي عذر مهما كان وجيهاً, يومها غبت عن المنزل طوال اليوم كعادتك, وعند ما حلت الساعة التاسعة مساء جئتني بتورتة, معتذرا عن الغياب وفرحا لكوننا سنحتفل للمرة الأولى منذ ست سنوات بذكرى عيد زواجنا. يومها أيها الغالي, أعربت لك بصدق بأنها أسوأ تورته ذقتها في حياتي, كما عززت في فضيلة الصراحة. لم تكابر , بل أكدت لي ذلك مبتسماً " هذا صحيح لأنها تورته بايتة وقد اشتريتها بأبخس ثمن" ووعدتني بأنك ستحتاط في العام القادم لهذا المسألة وتأتي بشئ يليق ومقام ذكرى هذا اليوم الجميل . وهاهو العيد السابع يطل عليّ وأنا وحيدة, أكاد أتخيلك مبتسما قائلا: "هارد لك يا أمل, فمنذ اليوم لا خناقات, ولا هدايا, ولا أحمد". 

 *******

 أيها الخرافي النقاء كقطرة ندى ..المتدفق حناناً ورحمة .. صلابة وقوة..أيها المخلوق النادر... اعترف بأنك لم تكن زوجا متفانيا. فقد كنت مسكونا بوجع " الجماهير الكادحة" كما كنت ترددها في كتاباتك. لكنك كنت أبا رائعا لثلاثتنا (فراس و لؤي وأنا). كنت في خضم مشاغلك لا تنسى مواعيد الدواء أو يغمض لك جفن إذا مرض أحد الطفلين . وها أنت تخاصم النوم لأكثر من أسبوع عندما أصيب فراس بالملاريا منذ أربعة اشهر, بل كنت تقضي الليل ساهرا خشية أن ترتفع درجة حرارته بينما نحن نيام, ومن حينها لا تنام إلا بعد أن تتأكد من خلو غرفة النوم من البعوض, حتى صرت خبيرا في قتلها بشتى الوسائل, وعن بعد أيضا. وإذا ما ساورك الشك بوجود بعوضة, ترمي بغطاء النوم معرضا رجليك وساعديك بقصد قائلا: "سأدع الناموس يتعشى من دمي كي لا يتعرض لفراس ولؤي" !! وكنت تطلب مني أن أقوم بنفس الشئ ولكني بأنانية ارفض ذلك معطية لك الفرصة لتقول لي "صحيح إنك أم با لفاكس" !. تفاصيل وأحداث عشتها معك, كلها كانت تؤكد لي أنك مخلوق قادم من عالم أخر.. فلا الزمان ولا المكان كانا قادرين على استيعابك, ولهذا غادرتنا سريعا, حتى إشعار آخر. 

 ******

 كان نومك المفضل عندما تضم فراس ولؤي إلى صدرك بساعديك العريضين لتغطي نصف جسميهما النحيلين فتبدو أشبة بصدفة تضم في جوفها اللؤلؤ..لا والذي خلقك بل لؤلؤاً يضم اللؤلؤ. أيها العملاق الذي ماعرف الخوف قلبك يوما .لازال محفورا في ذاكرتي وقفتك ذات يوم في أحد اجتماعات رابطة الطلاب اليمنين في مصر في منتصف الثمانينات, كانت القاعة تغص بالعشرات من الطلاب عندما وقفت مندداً بممارسة مندوب "الرعب الوطني" في السفارة اليمنية بالقاهرة وملاحقته للطلاب المنتسبين إلى الرابطة, جاء صوتك يومها قويا مزمجرا كالأسد: "قولوا للمطهر إني لا أخافه. ولا أخاف من وصل إلى السلطة سواء عبر فوهة " "مدفع, أو رضع السلطة من ثدي أمة. وها أنت تفر من سماع صراخ طفلك متألما من ضرب الحقن ..وتفقد شهيتك للطعام, بل للحياة عند رؤيتك على الشاشة مذبحة قانا في لبنان, وجثث الأطفال المتناثرة الأعضاء. قلت لي يومها بحزن: " رأيت طفلا ملطخاً بالدماء يشبه ولدي لؤي". ثم أسرعت لتخط بقلمك الرشيق مقالة بعنوان "النتن ياهو ونتني الإقليمية العربية" وكان مضمونها صرخة مدوية في وجه الأنظمة العربية التي تشهد موت أطفالنا بنتانة لاتحسد عليها, ثم رميت بالقلم ولم تكمل, شاعرا باليأس والإحباط والعبث واللاجدوى. 

*********

 برحيلك الموجع, يا أبا بأفراس, يغيب صوت الضمير والحكمة والحق, فقد كنت الأخر" شطحة يمنية يندر تكرارها " كما كنت تردد ذلك عن الشهيد عيسى محمد سيف. يبدو أن هذا الفصل هو موسم الأحزان الكبرى, فها هو الجاوي يترجل هو الأخر قبلك بشهرين ,وتعلق على رحليه بحزن واقتضاب : "لا طعم للسياسة بعد اليوم, لقد رحل ملح السياسة عمر الجاوي". أيها المتوج أبدا أميرا للفقراء والمتعبين, كان التصاقك بهموم الجائعين يصل بك أحيانا الى حد الشطط لتصرخ يوما :" على مفتي الجمهورية ان يصدر فتوى يجيز فيها للشعب اليمني ان يفطر شهر رمضان لأنه شعب أغلبيته جائعة طوال العام" . آه أحمد .. من ذا بعدك يشدني إلى الواقع حين يجمح خيالي, كما كنت تفعل وتقول لي :"علينا أن نحمد الله لأننا لا نزال نتناول ثلاث وجبات بينما هناك آلاف الأسر تقاتل من اجل الفوز بوجبة واحدة في اليوم على الأكثر". 

********

 لقد كنت عبقريا ولم تصبك جنون العظمة, وفقيراً و لم تمسك عقدة النقص, ومعارضاً ولم تنزلق في فخ المعارضة المستأنسة, ومثقفاً عصرياً لم تعان من شيزوفرونية السلوك والانتماء. (لو أجدبت الديمقراطية في البلاد كلها سيكون منزلنا الصغير واحة ديمقراطية). واشهدا لله أنك لم تخل ولم تنقض وعداً قطعته. أما روحك الخفيفة الساخرة والراقية بإنسانية لا مثيل لها, فقد كانت تختفي وراء هدوئك وصمتك المثير للاحترام والهيبة أمام ثرثرات البعض, كنت بمجرد أن تطأ قدمك باب المنزل حتى يستحيل الضجر والملل إلى مظاهرة للمرح, كنت بتعليقاتك الساخرة وقفشاتك المضحكة تضفي على المنزل عبقاً مميزاً وترسم على وجوهنا ابتسامات بعرض السماء. لن أنسى يوما شاهدنا فيه معاً على القناة المصرية احد المسؤولين المصريين يقص شريط افتتاح مشروع ربط نهر النيل بالوادي الجديد ,يومها قلت :" هذه هي الدول التي تبني مستقبلها بمشاريع إستراتيجية كهذه, ستخلق مصر أخرى على ضفاف الوادي الجديد". ثم أردفت مقارناً لما يجري هنا بقولك: "أما نحن في اليمن السعيد فمسؤولونا الكبار كل واحد فيهم يحمل مقصاً في جيبه بشكل دائم كالحلاقين, وكل يوم نراهم يتسابقون لقص شريط افتتاح دكان أو بقالة أو مخباره". لذالك أيها الطيب كنت أغار كثيراً من زملائك وأصدقائك عندما كنت تقضي معهم معظم أوقاتك ,وقليلة جداً هي اللحظات التي تقضيها معنا, ومع هذا فقد كان حضورك طاغياً و كثيفاً. هل يعقل ألا أسمعك بعد اليوم مرتلا .."يأيها الوطن المسدس في دمي قاوم " و " لا غرفة التحقيق باقية, لا ولا زرد السلاسل..نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل " و"مخلف صعيب لكن قليبي ماهنش". كنت تمتلك روحا شفافة وخفيفة بتلقائية وعفوية مفرطة..كم كان يحلو لك استفزازي لتضحك كثيرا لردود فعلي الآنية, كنت تكرر "دعيني الملم الليل عن شعرك".. حتى إذا ما صحى في غرور الأنثى تتدارك ميمننا العبارة ومتصرفا فيها بقولك : "خليني اشغم الفجر عن شعرك" مشيرا إلى الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزوا رأسي .وعندما تتأكد من حنقي تسترضيني بقولك : "لا عليك إن الجليد دائما ما يسكن القمم". كنت تردد لأصدقائنا المشتركين :"في هذا البلد يتعبني شيئان: سيارة أمل وسياسة على عبد الله صالح, أما سيارتي "الشقداف "كما لقبتها لأنها كانت مسؤوليتك تغيير عجلة السيارة وكثيراً ما كان يزعجك ذلك وخصوصا في الصباح الباكر. أما سياسة علي عبد الله صالح فذلك لأنك لم تخلق إلا لتعلب دورا قياديا في صناعة التاريخ مع كوكبة من الشرفاء, ولتشارك في عملية التغيير السياسي والاجتماعي وبناء الوطن الحلم, وكنت تقول : "إذا ما قدر لتنظيمنا الناصري أن يشارك في الحكم فسانخرط مرة أخرى في صفوف المعارضة" لأنك كنت تتمثل مقولة الأفغاني, على ما اعتقد, بأن "على المرء ألا يضعف امام إغراءات المال والسلطة والنساء". 

 ********

 وجدتك ذات يوم مسكوناً بالغيظ حينما بحت لي بقولك :"لقد تابعت الأخبار في معظم الفضائيات العربية والأجنبية وقت زيارة الرئيس إلى جنوب شرق أسيا, ولاحظت التعتيم الإعلامي من قبل هذه القنوات, خصوصا عند زيارة الرئيس لدولة عظمى كالصين, هذا التجاهل مهين ومقرف" , فعقبت على ذلك بقولي :"هل اعتبر ردة فعلك هذه بداية صلح بينك وبين سياسية الرئيس؟ ", فأجبت قائلا وبصدق : "بغض النظر عن موقفي من سياسته فهو في الأخير رئيس الدولة التي إليها أنتمي وهي دولة لها ثقلها التاريخي والحضاري, كما أن لها دوراً مستقبليا منتظراً, أن هذا التغيب المقصود قبل أن يكون إهانة للنظام هو إهانة لكل اليمنيين ". كم كنت خصماً شريفاً ووطنياً غيوراً, جئت عالمنا هذا كما قال مكسيم غوركي " كي تقول لا "! وكم كانت لاءاتك كثيرة :لا للتركيع, لا للتدجين واستلاب الحق والكرامة, لا للدجل والنفاق والانتهازية السياسية, لأنك لم تكن مكيافيلي التوجه بل ناصري الانتماء لتؤكد على " أن الوسيلة لابد أن تتسامى شرفا مع نبل الغاية ".

 ********

 كنت تناضل كي تكون المعارضة قوية, وتقول: "نريد معارضين حقيقين لا مشاقر تتجمل بها السلطة- أية سلطة – في فاترينات العهر السياسي". وكنت تؤمن بأن تتطور النظام السياسي على نحو ديمقراطي لن يتم إلا بوجود معارضة قوية غير مهرولة. 

 ********

 يقولون إن الحزن يبدأ كبيراً ثم يصغر..أما أنا فأشعر بعكس ذلك, فها أنا اليوم أعيد لملمة أنفاسي وإتزاني لأجد خارطة حزني تتسع يوماً بعد يوم.. أواه يا رفيق عمري!! ماهذا الحزن الذي يشرخ الروح ويفتت الفؤاد وينذر باعتقال الفرح في قمقم مفتاحه مفقود !! ثم ما جدوى الفرح أو النجاح وأنت منزوع منا !!.. بعدك أيها النبيل, تتساوى الأشياء ويتشابه الرجال ..ولا أجد فرقا بين طعم العلقم والعسل. لقد رددت حادثة موتك كثيرا ..وفي كل مرة كان يخيل إلي بأنني أحكي موت شخص أخر ليس أنت..أنت أيها الخالد لم تمت لأنك تسكن أحداقي وأحداق من أحبوك وعشقوا كاريزميتك المغرقة في البساطة. طلب منك ذات يوم أن تعرف بنفسك في أحدى الندوات في القاهرة بعد أن أدرت الرؤوس وشنفت الآذان لقوة منطقك وتسلسل أفكارك وبلاغة تعبيرك, فما كان منك إلا أن ترد متواضعا: " أنا من تلاميذ صوت العرب يوم أن كان للعرب صوت " متجاهلاً ذكر اسمك . أيها الفارس لا لم تمت فها أنا لازلت انتظرك يوميا وكأن ما حدث كابوس سأفيق منه قريبا وستطل عليّ من جديد لتسألني بعد التحية وكالعادة "هل تعشى الأولاد قبل أن يناموا ؟". يا أنت..يا أيها "الجرح المكابر"..أنت فقط سافرت دون وداع كعادتك, ودون أن تترك عنوانا أو ميعاد عودتك, ستعود ذات يوم ربما بنفس الوجه وربما بوجه أخر واسم أخر؛ لأنك برغم التردي الذي يحيط بنا, كانت لديك قناعة راسخة بأنه " لازال في بلدنا رجال من ذهب " وسيتحقق الحلم بوطن عادل للجميع . 

 ********

 لم تكن تدرك, أيها الطفولي ,الأحلام أنك تذرف دموع عمرك الأخيرة عند وفاة طفلتنا (ندى) التي سبقتك بأقل من أربعة أسابيع, كانت مفاجأة لي أن أراك تبكي كطفل , لا بل تنتحب كثكلي مع انه طوال السنوات السبع التي قضيتها معك لم الحظ دمعة واحدة في عينيك, رغم أتراح الحياة الكثيرة..فقط رأيت دمعة متحجرة في عينيك صباح إعلان الانفصال من قبل علي سالم البيض..وقتها قلت بصوت مبحوح :"هذا الرجل يرتكب خطأ العمر ويخسر المعركة ". قلت هذا لأنك شعرت بمحاولة اغتيال حلم عمرك "الـوحـدة". 

 ********

 وعدا أخر لم يسعفك الزمن بالإيفاء به يا أبا فراس .. وعدتني مازحا بإقامة عزاء فخم عند وفاتي وقلت أيضا: "شاسكعك عمود (خالدات) ما حصلش" على غرار عمود "الخالدون" الذي كان في بداية إصدار صحيفة "الـوحدوي". عزائي الوحيد ,يا كل الحب وكل العمر والنقاء ..هي تلك السنوات التي قضيتها إلى قربك حيث أكرمني الله بها .ولقد كان العيش بقربك تطهرا ,والإصغاء إلى حديثك تقربا إلى الله .. تلك السنوات تطوي كأنها غمضة عين أو بضعة أيام لا أكثر . هناك أيضا فراس حبيب بابا, ولؤي حبيب بابا, يعطران المنزل بنفحات من بعض روحك وذاتك السامية. كلمة أخيرة ".. 

ولرب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل ".

Saturday 2 June 2012

في ذكرى رجلُ لا يُنسَى


(صنعاء 28 فبراير 2002، مقال نشر في صحيفة الثقافية في الذكرى الرابعة لرحيل المناضل احمد طربوش سعيد).  

***************

 في مثل هذا اليوم, تكتمل أعوام أربعة, وأنت يا احمد العربي, عروبي الهوية والهوى, ما زلتَ أميراً للغياب, أعوام أربعة يا سيد رجال هذا الزمان, وانت تغرق في التراب, ونحن, كما كنت تقول : " مطحونون بالتوافه, ونغرق ببلادة في العارض من سفاسف الامور". أربعة أعوام دارت فيها الأرض حول الشمس أربعاً, وأنا ما برحتُ أدور حول نفسي الآف المرات, عشتُ خلالها المواسم كلها, مواسم الحزن, مواسم اليتم, مواسم الإنكسار ومواسم المقاومة, أولاً من أجل الصغار, وثانياً من أجل العيش على وهم أن أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد, وكأنه لا يزال في الروح بقايا روح, أو كأن لا يزال في القلب مساحة ضوء محجوزة لفرحٍ عله يمطر.

 لكنني أفيق مع تنفس كل صباح لأجدني مازلت متوجة أميرة للزلازل الكبرى، وما زالت الروح مشروخة والقلبُ متصدع كأرض شققها الضمأ, أو شقوق في وجه الأرض خلفتها زلالزل عاتية . اربعة اعوام ,وهذه الأرض الطهور التي تعاطيتَ دوماً عشقها، رضيعاً ويافعاً, تبادلك العشق بعشق, وتأبى إلا ان تستعجلك العناق، وهاهي تضمك الى كبدها في عناق أبدي, لتوقعنا, نحن الذين أحببناك رمزاً لكبرياء أمة، في أتون طقوس جنائزية وحزن كربلائي لامنتهى لهما .

 أربعة اعوام والسؤال المصلوب في احداقنا مايزال يحاصرنا، لماذا كان الرحيل مبكراً ؟! ولماذا يسقط الثمر قبل الأوان؟! أرحمة الله بك؟ أم قسوة الدهرعلينا ؟ !!!!. أربعة أعوام والصغار الذين تجري دماؤك الطاهرة في شرايينهم يذكّروننا بك صبح مساء، أعوامُ أربعة ومازال لؤي, مند ان كان في ربيعه الرابع حين أنتزعت منا، يحلم بأن يصبح منهدس حين يكبر كي يصنع صاروخ لنطير به جميعا (عشان نروح لبابا واختي ندى في السماء) . 

 أربعة اعوام ومازال لؤي يبحث عن راحة كفك الحنونة كي يفترشها تحت خده الصغير لينام كما عودته على ذلك. أربعة أعوام وفراس الذي أطفئ شمعته العاشرة لا زال يطرح نفس السؤال بإلحاح طفولي (ليش مات بابا فقير وانتي تقولي كان عبقري وعظيم؟). 

 أربعة أعوام عششت مفردات الموت فوق منزلنا الصغير, ليش مات بابا؟ متى ستموتي؟ من سيموت الأول فراس أو لؤي أو انت؟ واذا مت من سيبقى لنا ؟, هذه اللعبة مميتة, وتلك الآلة قاتلة, وهذا الأكل مسمم ..الخ, وكأن طائر الموت محلق فوقنا لم يغادرنا بعد, وصرنا نعيش في ظل مايمكن ان نطلق عليه (رعب الموت) أو هاجسه. أربعة اعوام وانا في حالة ترحال دائم بين الألم والألم, اهرب من منزلنا الصغير الذي ضمنا يوماً تعباً من ضجيج الذكريات ، ولا ألبث ان أعود اليه سريعاً ففيه نفحات روحك الطاهرة . أعوام أربعة ومازلت سهواً أهرول الى ركن السجائر في الأسواق الحرة في المطارات بحثاً عن سجائرك المفضلة, كأفضل مايهدى اليك بعد الكتاب، فأجد نفسي متسمرة, هامسة في سري (لاداعي, فقد رحل من كان يبادر عند وصولي بالقول وبالسؤال مباشرة : الحمدلله على سلامتك , إطمئني الاولاد والجميع بخير، اين سجائري ؟).

 أربعة أعوام صادفتُ فيها بعض من كنتَ تُطلق عليهم (رجال من ذهب), كما كان إيمانك بهم, رأيتُ فيهم بعض مابك من شمائل, نقاءً ثورياً، زهداً وورعاً صوفياً، طهراً نبوياً, صدقاً مبدئياً, طفولة أحلام وإقدام مقاتل مؤمن، إلا ان أياً منهم لم يجمع كل تلك الخصال كما كان الحال معك, وهذا هو سر تميزك وإرتقاءك، فاستحققت وحدك فقط ان تكون (احمد, لايشبه أحد, ولا أحد يشبهه)***.

 أربعة أعوام وانا أرقب الثامن من مارس من كل عام ، يوم المرأة العالمي الذي يذكرني بخفة ظلك ودعابتك التي ترفض مغادرة ذاكرتي، عندما اصريتُ عام 1991م على ان ترافقنى الى حفل تكريم أقامه اتحاد نساء اليمن لرسل السلام اللواتي اخترقن حصار العراق يحملن الحليب والدواء لأطفال العراق على متن سفينة ابن خلدون، كنت ألقي كلمة باسم رسل السلام ولمحتك تهمس في أذن الدكتور عبد القدوس المضواحي الذي كان جالس بجوارك وتحاول اخفاء ابتسامة ازعجتني لعدم حماسك للاستماع إلي، وعندما انفردت بك سألتك عن الشيء الذي اثار شهيتك للحديث الخافت والابتسام, وكان تعلقيك الظريف: (بالله عليك لا ترغميني مرة أخرى على مرافقتك الى اتحاد نساء اليمن أو أي تجمع نسوي آخر, لقد توقعت ان أرى نساء كما يزعم هذا العنوان المضلل، لكنني شعرت بأننا كنت الأكثر أنوثة من الحاضرات.. لماذا لايتغير اسم اتحاد نساء اليمن الى إتحاد "شقاة اليمن" وإن كان في التسمية إجحافاً للشقاة), وقد كنت يرحمك الله محقاً الى حد كبير, فمعظم القيادات النسائية حينها كانت تبالغ في الإهمال بمظهرها وكأن الحركة النسوية والاهتمام بحسن المظهر خطان متوازيان لايلتقيان إلا بإذن الله .

أربعة أعوام وحوادث الأيام تؤكد لي كم كنت رقيقاً وحنوناً ولبقاً، قلت لي حين تزوجنا: (سننجب ولد وبنت، سنسمي الولد سهيل فسهيل كان معبود قدماء اليمنيين، وسنسمي البنت امل لأن معبودتي اسمها امل ), وتمر السنون وننجب ولداً فأختار (الدكتور عبدف القدوس المضواحي اسم فراس بدلاً عن سهيل), وعندما انجبنا طفلتنا, التي خطفها الموت قبلك بثلاثة أسابيع, قال فراس وقتها (نسميها ندى) وكان ردك (موافق يافراس, هي ندى) وعندما لمحت تعابير اللا رضى على وجهي وكأني أعاتبك في القول (كلامك كالوعد وان لم تعد, لماذا ندى وليست امل؟) فاردفت من تلقاء نفسك معللاً: (امل هي انتي وأنا لا أقبل ان يزاحمك في الاسم أحد حتى لو كانت ابنتي). 

 أربعة اعوام تغير فيها شكل وايقاع الحياة بشكل مخيف, وانكسر خلالها الحلم الذي ناضل من اجله شرفاء الأمة طويلاً ، اتسعت خارطة الفقر وانتشرت جيوبه في ربوع اليمن الذي قيل لنا يوماً أنه كان سعيداً, تزحزحت الطبقة الوسطى لتنضم كارهة الى جيوش الفقراء, كشّر الفساد عن انيابه لنجد شرفاء الأمس يتساقطون ويتحولون اليوم الى لصوص وسارقي قوت اطفالنا الفقراء. ساسة اليوم يزحفون على بطونهم من أجل الرّكل الى أعلى والإثراء المشروع وغير المشروع ، معظم معارضي السلطة وفرسانها فلحوا فقط في معارضة انفسهم, في اغلب الاحوال, أما نتانة فساد بعضهم فما برحت تزكم الأنوف. 

 تدحرج مشروعنا القومي الى قاع الأجندة السياسية بينما اعتلت قيم العولمة والكوكبة ومداعبة الإرهاب الذي لم يتفق بعد على تحديد مفهومه ونطاقه ليختلط النضال والمقاومة المشروعة بغير المشروع منها، وهذه الانظمة العربية والاسلامية على حد سواء تحرق البخور وتجيد ممارسة فن الممكن من أجل سواد عيون ماما أمريكا, وتعجز عن نصرة الأشقاء ظالمين أو مظلومين . أربع سنوات وماذا اقول بعد, كبر الصغار وكبر العبء معهم ، إلا أن لؤي لم يعد يلحن بإحلال كلمة الاشتراكية مكان الامبريالية عندما كنت تهدهدهما بانشودتك الدائمة ويرددان خلفك: (يا أطفال العالم ثوروا ياعمال يا فلاحين, شيدوا الاشتراكية, دمروا الامبريالية).

 يا ابن طربوش يرحمك ويرحمنا الله, وان موعدنا لقريب .

 * العبارة أعلاه للكاتب الصحفي حسن العديني في مرثيته لأحمد***

كم هو رائع ... كم هو خائن .....

(مساء أول أمس شاهدت حلقة تلفزبونية عن التعذيب, فتذكرت مقال كتبته منذ 8 سنوات, لم يكن المقال في الأساس عن التعذيب, انما نثرت بعض السطور عنه, إسمحوا لي أن أعيد نشره لكم الليلة ) نشر في صحيفة الثقافية 29/2/2004م  

************

 شي يشبه الحفيف ينبعث من داخلي أكاد أسمعه, أشعر به ينتشر رويداً رويداً حتى أصابع يدي.. آه... إنها البرودة, ما أبشعها, كم أكره الأجسام الباردة وأخافها .. وهذه البرودة أعرفها, بل عرفتها مرتين، المرة الأولى عندما وضعت يدي فوق يد طفلتي (ندى) كانت يدها باردة على نحو مختلف...أنخلع القلب وعرفت للتو أنها ميتة, والمرة الثانية عندما أوصلناه المستشفى, كان ممداً على السرير و عندما لمست جبينه كان بارداً, تماماً كبرودة ندى.. هي إذا برودة الموت, فأنفجر القلب باكياً وبردت أطرافي. ومن حينها وأنا أخاف ملامسة الأشياء الباردة, وأكره البرد. 

 ******

 اسطنبول، هذه المدينة التي تمد ضفائرها بين قارتين, كم هي فاحشة البياض وباردة. هجم الجليد على المدينة، فأغلق المطار وعطل المرور وانقطعت الكهرباء وها هي تمطر ثلجا يشبه زغب الريش, المدينة مكفنة بالبياض, والأشجار مكسوة بالجليد وتورق ثلجاً يتساقط تباعا. وهذا التوهان في الطرقات المؤدية إلى الجوامع العتيقة في اسطنبول متعة لا تفسدها سوى هذه البرودة المتسللة إلى عظامي, فكأن قلبي يضخ البرد ويبثه حولي, أفر مسرعة إلى غرفة الفندق عل رسائل مسجلة على الهاتف تزيل عني البرد وتمنحني الدفْ كالعادة, لكن اليوم غير البارحة. يا لهذا التناقض, من مدينة بومباي الخضراء الدافئة وحشود بشرية جاءت إلى المنتدى الاجتماعي العالمي الرابع تحلم بعدالة ضائعة, رافعة شعار ( إن عالماً آخر ممكناً) وتدعو إلى عولمة مؤنسنة ومؤسسات تمويل دولية أقل وحشية وانقضاضاً على فقراء العالم من دول الشمال والجنوب على حد سواء. من بومباي المكتظة إلى اسطنبول الهادئة المتشحة بالبياض كأرملة في ثوب حداد , هكذا, عندما كنت طفلة, رأيت أمي متشحة بالبياض حين مات أبي. أطل من النافذة. هناك بحر مرمرة ساكناً كتلميذ يخشى العقاب إن هو تحرك, هذا البياض, وهذا الضوء كلاهما أكثر مما ينبغي . وكم أخافهما, ترى ما الذي سيحدث لي إذا قررت الشمس ألا تغيب ولم يأت الليل؟. كم أنا متعبة وكم هي أيامي مفخخة بالألم . أتكور فوق سريري كجنين في رحم أمه, يااه كم هو جميل أن أعود إلى هناك, إلى رحم أمي حيث الدفء والطمأنينة والظلام . الرحم أول بيت يألفه الإنسان ولا يعلق في الذاكرة, من لي بشاهق أقذف منه ذاكرة آسنة, وأبدأ الرحيل نحو المجهول من جديد. 

 *******

 هذا العالم الإنترنيتي وشخوصه الإلكترونيون كم هو عجيب وساحر. صور ورسائل ترسم البسمة وأخرى تمسحها. إحدى الرسائل تقول (وردة لعبد الرحمن منيف ورحيله المباغت) وأخرى من طفلي لؤي تقول (يا ماما ما تزعليش .طائرالكنار مات) , كم أزعجني موت الأخير وآلمني موت الأول, بالتأكيد صارا كلاهما باردين. فتذكرت مارجريت المكسيكية التي قابلتها عام89 م في مدينة سراييفو قبل الدمار والحرب الفجيعة, عندما قرأت كفي و قالت: (( أنت ابنة الله You are a Child of God فهمتها بمعنى *محروسة انت بعناية إلآهية * في حياتك ترحال كثير ودموع كثيرة, ستكسبين الكثير وتنفقين كثيراً, لن تكوني غنية ولا فقيرة )), لله درك يا مارجريت كم صدقت , رغم مقولة ( كذب المنجمون). ********

 مع خبر رحيل عبدالرحمن منيف لا أدري بالضبط لماذا قفز عنوان رائعته (شرق التوسط) إلى الذاكرة, قرأتها منذ عشرون عاماً تقريبا بالإضافة إلى روائعه مدن الملح، حين عبرنا الجسر، الأشجار واغتيال مرزوق الخ. هل لأنها الرواية التي صعقتني بقضايا التعذيب في سجون القمع الوحشي ؟. التعذيب الذي مأسسته الأنظمة الشمولية وتعبقرت بتنويع أساليبه حتى صارت أجهزتها الأمنية هي الأكثر تطوراً لأنظمة متخلفة, عاجزة وفاسدة. أم هي أيضا قضــية الخيانة والتخوين بين الرفاق عند انهيار الجسد والروح معا جراء التعذيب فيكون البوح وما يليه من مآسي المطاردة والتنكيل بالآخرين, التعذيب, ياإلهي, هل الأنظمة السلطوية فقط تمارسه؟ أم الأفراد أيضاً, بعيداً عن السياسة وما شابهها, يمارسون شتى أنواعه؟؟ هل حقا نحن ضحايا أنظمة فقط, أم أيضا ضحايا أفراد لا يقلون عنفاً عن أنظمة أوكلت لنفسها مهمة هي من أقذر المهمات في التاريخ, التعذيب تراث البشرية السيئ، ها هي أدواته المختلفة من الفرس الأسباني إلى حزام العفة, جميعها اليوم معروضة في متاحف التعذيب في العواصم الأوروبية كأمستردام ولندن.

 سؤال أطرحه وأظنه مشروعا: هل يمكن أن نراهن على إسم أول نظام عربي يبني متحفاً للتعذيب ويعلن التوبة !! لا شك أن هناك أفراد ومجموعات ومؤسسات رسمية تمارس إثم التعذيب, لا فرق كل يؤديه بطريقته, ثم يشرب الجميع نخب انتصاراتهم الوهمية مخلفين ورائهم كائنات مسحوقة الكرامة والكبرياء وجثث باردة. هل حقا نحن فقط ضحايا لا جلادين؟. كثيراً ما نستعذب لعب دور الضحية ونبالغ في تصوير القهر الواقع علينا بلغو الكلام, تماما (كالعشاق المتحذلقين), كما تقول أحلام موستغانمي ( الذين استهوتهم لغة الكلام فصاروا يقسون على الحب إكراماً للأدب). لماذا ننكر على أنفسنا دور الجلادين !!. ربما بهذه الطريقة يمكننا أن نأوي إلى الفراش قريري الأعين مرتاحي الضمير كوننا الطيبين, أما الآخرون الأشرار أبناء القبح فلهم العذاب وبئس المصير.!!! 

 ******

 هل ما نقوله هو الحقيقة؟ وهل ما نراه ونسمعه ونقرأه وندركه كل الحقيقة، بعضها، قليلها أو لا شيء منها؟. رأيت رسامين عند كنيسة القلب المقدس في باريس منذ 12 عاما واحد يرسم لوحة لموديل تحمل بيد شمعة وزميله يرسم نفس الموديل تحمل باليد الأخرى لغماً . ترى من منهما يملك الحقيقة ؟! ومن لديه اليقين؟! . وقرأت مرة قصة طويلة اختصرها هنا لدلالاتها, أراد فنان أن يرسم لوحة العشاء الأخير للمسيح فجاء بأوسم شاب وظل يرسم وجهه لشهور ناقلا تقاطيعه الجميلة وملامحه السمحة لتحاكي ملامح المسيح, وعندما انتهى أراد رسم لوحة جوديس الذي خان المسيح ودل عليه فقتل بالتعذيب صلباً كما تقوا القصة, وظل الفنان يبحث عن وجه يعبرعن ملامح خائن, وظلت اللوحة غير مكتملة سبع سنوات لأنه لم يعثر على ضالته, وأخيراً أرشده الناس على شخص خرج للتو من السجن، رأه الفنان, أقتنع بملامحه وبدء برسمه.

 بعد وهلة انفجر الرجل باكياً, وذهل الفنان عندما أدرك أن الشخص الذي يرسمه في تلك اللحضة هو نفس الشخص الذي رسمه منذ سبع سنوات ليجسد وجه المسيح, كانت تقاطيع وجهه وديعة وسموحة في الماضي, وعندما خان الأمانة تغيرت مع الزمن قسمات وجهه فبانت عليه ملامح القسوة والقبح فبدى مختلفا. هكذا علينا ألا نأخذ الأمور كمسلمات, فالجمال في حياتنا قد يكون عابر, والقبح باق والعكس صحيح, ما نظنه جميل اليوم قد يغدو غير ذلك مستقبلاً, والأشياء التي أسعدتنا وأدهشتنا في الماضي قد تثير فينا الغثيان الآن, وها أنا ذا اليوم أوشك على التقيؤ لأكثر من سبب.  

*******

 يقول الشاعر العراقي الجميل، جمال الحلاق واصفا حياتنا التي تنقصها الشفافية والصدق (نحن نعيش بخوف وقلق .. نتلفت يمينا ويسارا ونعيش حياتنا كأننا نمارس العادة السرية). افتقارنا للصدق والواقعية يعد من أهم أسباب فشلنا الذريع في السياسة والحياة والحب, أنظمة محتضرة في زمن الجدران, جدار إسرائيلي هناك وجدار عربي هنا, حفر أمريكية متربصة, علاقات اجتماعية مفككة, مؤسسات زوجية مهترئة ومنها آيلة للسقوط , لكنها مستمرة لا نزولا عند رغبة المخرج فقط بل لأن الجمهور (عايز كده). تماما كهواة جمع الطوابع, هناك من يهوى جمع الزوجات سراً وعلانية, وهناك من يفاخر بجمع العشيقات, ذاك يتباهى بعدد العابرات, وآخر لم يحسم بعد من تكون أم البنين والبنات, كائنات متضخمة الأنا حد الورم, تقتات النساء كي تثبت فحولتها لا رجولتها, غابة, وجونتر جراس, الأديب الألماني الكبير بهباء يحذر, (لا تذهب إلى الغابة, فإن في الغابة غابة) . 

 ******

 لأنه كان صادقاً حد الدهشة, جاءه يوماً أحد الأصدقاء بقصيدة لينشرها في صحيفة الوحدوي عندما كان رئيساً لتحريرها, كانت القصيدة غير صالحة للنشر, سأله الصديق, ما رأيك ببحر القصيدة؟ صمت أحمد قليلاً ثم أجاب مبتسماً (لا أرى بحراً, لكنني أرى قصيدة تتقفز من بركة لبركة). ولأنه كان محباً حد الروعة، قال لي ليلة زفافنا )) عندما طلب مني القاضي أن أردد بعده (قبلتها زوجة لي) كدت أسخر منه وأقول: ماذا؟ قبلتها؟ بل قل تمنيتها وحلمت بها تزين حياتي كالقمر يزين وجه السماء)). ظننت كلامه مجرد غزل عريس لعروسه, وتمر السنون فألتقي يوماً بصديق حميم له, ذكرناه فقال (عندما أنهيتي دراستك وغادرت مصر ,خرجت معه في ليلة مقمرة, كانت السماء صافية والقمر يتوسطها, حينها باح لي لأول مرة قائلا ( انظر إلى القمر, ألا يشبه أمل؟). 

 ********

 في طريق عودتنا من تعز إلى صنعاء، كانت الشمس ساطعة وكان المطر يهطل بكسل, رأينا في السماء ثلاث أقواس قزح مرتسمة واحد فوق الأخر باتساق مدهش, هكذا بدت الأقواس خرافية التراص, ملونة كأنها بوابة الجنة ونحن نركض باتجاهها, قال لي ساعتها: (انظري، السماء تبارك زواجنا, هذا زواج مبارك). قالها بصوت خفيف كعادته, أبيع بقايا عمري وأسمعه مرة ثانية. لكنه لم يقل أيضا بأنه سيكون حلماً خاطفاً وعابر. يا الهي ..كم هو رائع ..كم هو خائن ...أرتكب الخيانة معي ملبياً نداء ربه, فتركني وحيدة والرحلة لم تكن قد بدأت بعد. 

 ******

 (كتبته ونشرته في الذكرى السادسة لوفاة أحمد طربوش)