Saturday, 2 June 2012

في ذكرى رجلُ لا يُنسَى


(صنعاء 28 فبراير 2002، مقال نشر في صحيفة الثقافية في الذكرى الرابعة لرحيل المناضل احمد طربوش سعيد).  

***************

 في مثل هذا اليوم, تكتمل أعوام أربعة, وأنت يا احمد العربي, عروبي الهوية والهوى, ما زلتَ أميراً للغياب, أعوام أربعة يا سيد رجال هذا الزمان, وانت تغرق في التراب, ونحن, كما كنت تقول : " مطحونون بالتوافه, ونغرق ببلادة في العارض من سفاسف الامور". أربعة أعوام دارت فيها الأرض حول الشمس أربعاً, وأنا ما برحتُ أدور حول نفسي الآف المرات, عشتُ خلالها المواسم كلها, مواسم الحزن, مواسم اليتم, مواسم الإنكسار ومواسم المقاومة, أولاً من أجل الصغار, وثانياً من أجل العيش على وهم أن أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد, وكأنه لا يزال في الروح بقايا روح, أو كأن لا يزال في القلب مساحة ضوء محجوزة لفرحٍ عله يمطر.

 لكنني أفيق مع تنفس كل صباح لأجدني مازلت متوجة أميرة للزلازل الكبرى، وما زالت الروح مشروخة والقلبُ متصدع كأرض شققها الضمأ, أو شقوق في وجه الأرض خلفتها زلالزل عاتية . اربعة اعوام ,وهذه الأرض الطهور التي تعاطيتَ دوماً عشقها، رضيعاً ويافعاً, تبادلك العشق بعشق, وتأبى إلا ان تستعجلك العناق، وهاهي تضمك الى كبدها في عناق أبدي, لتوقعنا, نحن الذين أحببناك رمزاً لكبرياء أمة، في أتون طقوس جنائزية وحزن كربلائي لامنتهى لهما .

 أربعة اعوام والسؤال المصلوب في احداقنا مايزال يحاصرنا، لماذا كان الرحيل مبكراً ؟! ولماذا يسقط الثمر قبل الأوان؟! أرحمة الله بك؟ أم قسوة الدهرعلينا ؟ !!!!. أربعة أعوام والصغار الذين تجري دماؤك الطاهرة في شرايينهم يذكّروننا بك صبح مساء، أعوامُ أربعة ومازال لؤي, مند ان كان في ربيعه الرابع حين أنتزعت منا، يحلم بأن يصبح منهدس حين يكبر كي يصنع صاروخ لنطير به جميعا (عشان نروح لبابا واختي ندى في السماء) . 

 أربعة اعوام ومازال لؤي يبحث عن راحة كفك الحنونة كي يفترشها تحت خده الصغير لينام كما عودته على ذلك. أربعة أعوام وفراس الذي أطفئ شمعته العاشرة لا زال يطرح نفس السؤال بإلحاح طفولي (ليش مات بابا فقير وانتي تقولي كان عبقري وعظيم؟). 

 أربعة أعوام عششت مفردات الموت فوق منزلنا الصغير, ليش مات بابا؟ متى ستموتي؟ من سيموت الأول فراس أو لؤي أو انت؟ واذا مت من سيبقى لنا ؟, هذه اللعبة مميتة, وتلك الآلة قاتلة, وهذا الأكل مسمم ..الخ, وكأن طائر الموت محلق فوقنا لم يغادرنا بعد, وصرنا نعيش في ظل مايمكن ان نطلق عليه (رعب الموت) أو هاجسه. أربعة اعوام وانا في حالة ترحال دائم بين الألم والألم, اهرب من منزلنا الصغير الذي ضمنا يوماً تعباً من ضجيج الذكريات ، ولا ألبث ان أعود اليه سريعاً ففيه نفحات روحك الطاهرة . أعوام أربعة ومازلت سهواً أهرول الى ركن السجائر في الأسواق الحرة في المطارات بحثاً عن سجائرك المفضلة, كأفضل مايهدى اليك بعد الكتاب، فأجد نفسي متسمرة, هامسة في سري (لاداعي, فقد رحل من كان يبادر عند وصولي بالقول وبالسؤال مباشرة : الحمدلله على سلامتك , إطمئني الاولاد والجميع بخير، اين سجائري ؟).

 أربعة أعوام صادفتُ فيها بعض من كنتَ تُطلق عليهم (رجال من ذهب), كما كان إيمانك بهم, رأيتُ فيهم بعض مابك من شمائل, نقاءً ثورياً، زهداً وورعاً صوفياً، طهراً نبوياً, صدقاً مبدئياً, طفولة أحلام وإقدام مقاتل مؤمن، إلا ان أياً منهم لم يجمع كل تلك الخصال كما كان الحال معك, وهذا هو سر تميزك وإرتقاءك، فاستحققت وحدك فقط ان تكون (احمد, لايشبه أحد, ولا أحد يشبهه)***.

 أربعة أعوام وانا أرقب الثامن من مارس من كل عام ، يوم المرأة العالمي الذي يذكرني بخفة ظلك ودعابتك التي ترفض مغادرة ذاكرتي، عندما اصريتُ عام 1991م على ان ترافقنى الى حفل تكريم أقامه اتحاد نساء اليمن لرسل السلام اللواتي اخترقن حصار العراق يحملن الحليب والدواء لأطفال العراق على متن سفينة ابن خلدون، كنت ألقي كلمة باسم رسل السلام ولمحتك تهمس في أذن الدكتور عبد القدوس المضواحي الذي كان جالس بجوارك وتحاول اخفاء ابتسامة ازعجتني لعدم حماسك للاستماع إلي، وعندما انفردت بك سألتك عن الشيء الذي اثار شهيتك للحديث الخافت والابتسام, وكان تعلقيك الظريف: (بالله عليك لا ترغميني مرة أخرى على مرافقتك الى اتحاد نساء اليمن أو أي تجمع نسوي آخر, لقد توقعت ان أرى نساء كما يزعم هذا العنوان المضلل، لكنني شعرت بأننا كنت الأكثر أنوثة من الحاضرات.. لماذا لايتغير اسم اتحاد نساء اليمن الى إتحاد "شقاة اليمن" وإن كان في التسمية إجحافاً للشقاة), وقد كنت يرحمك الله محقاً الى حد كبير, فمعظم القيادات النسائية حينها كانت تبالغ في الإهمال بمظهرها وكأن الحركة النسوية والاهتمام بحسن المظهر خطان متوازيان لايلتقيان إلا بإذن الله .

أربعة أعوام وحوادث الأيام تؤكد لي كم كنت رقيقاً وحنوناً ولبقاً، قلت لي حين تزوجنا: (سننجب ولد وبنت، سنسمي الولد سهيل فسهيل كان معبود قدماء اليمنيين، وسنسمي البنت امل لأن معبودتي اسمها امل ), وتمر السنون وننجب ولداً فأختار (الدكتور عبدف القدوس المضواحي اسم فراس بدلاً عن سهيل), وعندما انجبنا طفلتنا, التي خطفها الموت قبلك بثلاثة أسابيع, قال فراس وقتها (نسميها ندى) وكان ردك (موافق يافراس, هي ندى) وعندما لمحت تعابير اللا رضى على وجهي وكأني أعاتبك في القول (كلامك كالوعد وان لم تعد, لماذا ندى وليست امل؟) فاردفت من تلقاء نفسك معللاً: (امل هي انتي وأنا لا أقبل ان يزاحمك في الاسم أحد حتى لو كانت ابنتي). 

 أربعة اعوام تغير فيها شكل وايقاع الحياة بشكل مخيف, وانكسر خلالها الحلم الذي ناضل من اجله شرفاء الأمة طويلاً ، اتسعت خارطة الفقر وانتشرت جيوبه في ربوع اليمن الذي قيل لنا يوماً أنه كان سعيداً, تزحزحت الطبقة الوسطى لتنضم كارهة الى جيوش الفقراء, كشّر الفساد عن انيابه لنجد شرفاء الأمس يتساقطون ويتحولون اليوم الى لصوص وسارقي قوت اطفالنا الفقراء. ساسة اليوم يزحفون على بطونهم من أجل الرّكل الى أعلى والإثراء المشروع وغير المشروع ، معظم معارضي السلطة وفرسانها فلحوا فقط في معارضة انفسهم, في اغلب الاحوال, أما نتانة فساد بعضهم فما برحت تزكم الأنوف. 

 تدحرج مشروعنا القومي الى قاع الأجندة السياسية بينما اعتلت قيم العولمة والكوكبة ومداعبة الإرهاب الذي لم يتفق بعد على تحديد مفهومه ونطاقه ليختلط النضال والمقاومة المشروعة بغير المشروع منها، وهذه الانظمة العربية والاسلامية على حد سواء تحرق البخور وتجيد ممارسة فن الممكن من أجل سواد عيون ماما أمريكا, وتعجز عن نصرة الأشقاء ظالمين أو مظلومين . أربع سنوات وماذا اقول بعد, كبر الصغار وكبر العبء معهم ، إلا أن لؤي لم يعد يلحن بإحلال كلمة الاشتراكية مكان الامبريالية عندما كنت تهدهدهما بانشودتك الدائمة ويرددان خلفك: (يا أطفال العالم ثوروا ياعمال يا فلاحين, شيدوا الاشتراكية, دمروا الامبريالية).

 يا ابن طربوش يرحمك ويرحمنا الله, وان موعدنا لقريب .

 * العبارة أعلاه للكاتب الصحفي حسن العديني في مرثيته لأحمد***

No comments:

Post a Comment